الحمد لله الذي خلق الناس من ذكر وأنثى، وجعل بينهم مودة ونسبا وصهرا، أحمده وأشكره وأومن به ولا أكفره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحابته ومن تبعهم على دينه وسلم تسليما كثيرا
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله حق التقوى.
أيها المسلمون: يهدف الإسلام الذي شرفنا الله به ورضيه لنا دينًا إلى حفظ النسب والنسل، ويدعو إلى حفظ الفروج وصيانة الأعراض، ويرغب في عمارة الكون وإصلاح الأرض وما يحقق للمجتمع الإسلامي الاستمرار والبقاء، ولا يتأتى ذلك إلا باتباع ما شرع الله من التزاوج والتناسل.
والزواج نعمة قد امتن الله على خلقه بها، وجعلها آية من آياته توجب التفكر والشكر، فقال جل جلاله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21].
ولقد حث الشرع وأمر جميع المسلمين بالزواج إناثاً وذكوراً وأحله لهم قال الله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3]، ويقول سبحانه: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32].
وقد كان الزواج ملة الأنبياء وسنة المرسلين، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38].
وسنة المصطفى القولية والفعلية تحثّ على ذلك وترغب فيه، روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج»، وقال منكرًا على من رغب عن الزواج ونحوه مما أحل الله: ((لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) متفق عليه، وفي صحيح مسلم: «الدنيا متاع، وخير متاعها الزوجة الصالحة».
وكان الزواج سنة سلف هذه الأمة رحمهم الله، قال الصديق: (أطيعوا الله فيما أمركم من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى)
وقال ابن مسعود: (التمسوا الغنى في النكاح)، وقرأ قوله تعالى: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32].
وقال: «لو لم يبق من أجلي إلا عشرة أيام وأعلم أني أموت في آخرها يومًا ولي طَوْلٌ على النكاح فيهن لتزوجت مخافة الفتنة).
وقال الإمام أحمد رحمه الله: (ليست العزوبة من أمر الإسلام في شيء، ومن دعاك إلى غير التزوج دعاك إلى غير الإسلام).
وما شرع الله النكاح وفطر النفوس على الزواج إلا للمصالح العظيمة المترتبة على ذلك سواء عاجله أم آجلة في الدنيا أم في الآخرة فمنها الاستجابة لأمر الله ورسوله، وبالاستجابة تحصل الرحمة والفلاح في الدنيا والآخرة، وفي النكاح تحصين الفرج وحماية العرض، وغض البصر والبعد عن الفتنة، وفيه قضاء الوطر وفرح النفس، والاغتباط بنعمة الله وفيه تكثير الأمة الإسلامية، وبكثرتها وتمسكها يشرع الله تقوى على أعداءها وتكتفي بذاتها عن غيرها، وفيه تحقيق مباهات الرسول صلى الله عليه وسلم بأمته يوم القيامة فقد قال صلى الله عليه وسلم: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة». رواه أحمد وصححه الألباني.
وفيه تكوّن الأسر وتقريب الناس بعضهم لبعض فان الصهر شقيق النسب قال تعالى: {وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا}.
وفيه حصول الذرية والأولاد، وحصول الأجر علي تربيتهم والسعي في الإنفاق عليهم، وهو سبب للغناء وكثرة الرزق قال تعالى: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
قال أبو بكر رضي الله عنه أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى وقال ابن عباس رضي الله عنهما رغبهم الله تعالى في التزويج ووعدهم عليه من الغنى فقال: {إن يكونوا فقراء يغنيهم الله من فضله}.
والزواج منهل عذب لكسب الحسنات. قال صلى الله عليه وسلم: (وفي بُضْع (كناية عن الجماع) أحدكم صدقة). قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم، لو وضعها في حرام، أكان عليه وِزْر؟» قالوا: بلى. قال: «فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر» مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم-أيضًا-: «وإنك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في في (فم) امرأتك» متفق عليه
ومن فوائد النكاح أنه درء للمفسدة التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
وفي الزواج ـ عباد الله ـ غضٌ للبصر وحفظ للفرج وحرث للنسل ومتاع للحياة وإحصان للجوارح، وفيه الخير كل الخير لمن وفقه الله عز وجل، ولهذه المنافع الجمّة والحكم العظيمة المحبّبة للنفوس البشرية ولما ركبه المولى جل وعلا في الإنسان من الغريزة والشهوة كان لا بد للرجل والمرأة من الزواج، سكنًا ولباسًا ومودة ورحمة.
عباد الله: لما كان الزواج بهذه الأهمية في الكتاب والسنة وفيه هذه الفوائد العظيمة، فإنه يجب على المسلمين أن يهتموا بشأنه ويسهلوا طريقه ويتعاونوا على تحقيقه، ويمنعوا من يريد تعويقه من العابثين والسفهاء والحسدة والمخذلين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
لذلك جعل الله أمر التزويج بأيدي الرجال الراشدين والأولياء الصالحين، قال تعالى: {وَأَنْكِحُواْ الأيَـامَى مِنْكُمْ} [النور:32].
وهذا خطاب للرجال العقلاء كما خاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير». رواه الترمذي.
أيها المسلمون: مالذي يمنع عن الزواج والمبادرة إليه وتيسير طرقه وتذليل الصعاب أمام الراغبين فيه وقد عُلمت منافعه وآثاره وقَرعت أدلته النقلية والعقلية الأسماع؟! أيمنع منه عجزٌ وتقصير؟! أيمنع منه تساهل وعدم مبالاة بالعواقب، أو انسياقٌ وراء الناعقين من أعداء الشريعة الذين تقُضّ مضاجعهم كثرة المسلمين وزيادة عددهم، أو انجرافٌ في سيل عادات جاهلية وتقاليد اجتماعية مخالفة لمنهج الكتاب والسنة، أو انسياق وراء مظاهر خادعة وتكاليف باهظة هي آصار وأغلال ما أنزل بها من سلطان؟!
الخطبة الثانية
أيها المسلمون: إن هذه المصالح المترتبة على الزواج العائدة على الفرد والمجتمع تحول دون تحقيقها عوائق، من أهمها: غلاء المهور ونفقات الزواج وتزايدها والإكثار من الكماليات التي لا فائدة لها، حتى صار الزواج عند بعض الناس من الأمور المستحيلة أو الشاقة جدا إلا بديون تشغل الذمة فتجعل الشاب أسيراً لدائنه، وإنه لا يمكن القضاء على هذه العقبة إلا بأولياء، في إيمانهم أقوياء، إذا أتاهم من يرضون دينه وخلقه زوجوه، بما لا يثقل كاهله، وبما يتيسر مما معه، وأعانوه على زواجه.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ألا لا تغلو في صداق النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم ما أُصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نساءه ولا أُصدقت امرأة من بناته أكثرُ من اثنتي عشرة أوقية، وان الرجل ليغلو في صداقه حتى يكون لها عداوة في نفسه وحتى يقول: كلفت إليك علق القربة أي تكلفت دفع كل شيء عندي إليك حتى علق القربة وهو الحبل الذي تعلق به.
ومن العوائق عن الزواج أيضا عزوف كثير من الشباب نساء ورجال عن الزواج بحجج واهية أوهن من بيت العنكبوت، منها احتجاجهم على عدم الزواج بتكميل الدراسة وهذه حجة داحظة فان النكاح لا يمنع من المضي في الدراسة والنجاح فيها بل ربما يكون عون على ذلك. وبسبب هذه الحجة فات على الكثير من الفتيات زهرة عمرها وصرف عنها الخُطّاب الأكفاء، ثم ماذا بعد الحصول على الشهادات، فوات الزوج المناسب في الوقت المناسب.
ومن العوائق عضل بعض الأولياء مولياتهم من الزواج فهناك بعض الأولياء-هداهم الله- قد خانوا الأمانة التي حُمِّلوها في بناتهم وفتياتهم، بمنعهنّ من الزواج من الأكفاء دينًا وخُلقًا وأمانة، فقد يتقدم إليهم الخاطب الكُفء فيماطلونه ويعتذرون له بأعذار واهية، وينظرون فيه إلى أمور شكلية وجوانب كمالية، يسألون عن ماله، عن وظيفته، عن وجاهته ومكانته، ويُغفلون أمر دينه وخُلقه وأمانته.
والرسول يقول: «إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض». خرَّجه الترمذي
فيا أيه الأولياء اتقوا الله: ويسروا ولا تعسروا، واعلموا أن تعقيد أمر الزواج ورد الأكفاء ووضع العقبات في سبيله، يعني فتح الباب على مصراعيه للفساد الخلقي والانحلال والتفسخ والإباحية، إنها دعوة مبطنة للزنا واللواط ووضع الشهوة في غير الطريق المشروع واستشراء الجرائم الخلقية المدمرة.
بماذا نفسر ظواهر الزنا والاختطاف والمعاكسات والمغازلات وهروب كثير ممّن اكتوَوا بنار الشهوة واصطلَوا بلَظاها إلى بقاع تروج بها سِلع الفساد وتسهل فيها طرقه؟!
المصدر: موقع الزوجان.